آراء

موريتانيا.. كيف شيدت دولة مترامية الأطراف وسط محيط سكاني هائل؟…بقلم / أحمد العالم

في قلب الصحراء الكبرى وعلى تخوم الأطلسي، قامت موريتانيا ككيان سياسي على مساحة جغرافية تفوق مليون كيلومتر مربع، بحدود تمتد مع الجزائر، المغرب، السنغال، ومالي. دولة مترامية الأطراف، قليلة السكان (حوالي 5 ملايين نسمة فقط)، محاطة بجيران يفوق عدد سكانهم عشرات الملايين: الجزائر (46.8 مليون)، المغرب (38 مليون)، مالي (24.7 مليون)، والسنغال (18.5 مليون).

السؤال الذي يفرض نفسه: كيف تمكن بلد صغير سكانيًا من تثبيت أركان دولته والحفاظ على بقائه واستقلاله في منطقة شديدة الاضطراب؟ وهل كانت قوته الحقيقية في العدد أم في عوامل أخرى؟

 

البعد السياسي: حكمة التوازنات الإقليمية

منذ استقلالها عام 1960، واجهت موريتانيا تحديًا جوهريًا: كيف تؤسس شرعية الدولة الحديثة وسط إرث قبلي عريق وصراعات إقليمية حادة؟

انتهجت نواكشوط سياسة التوازن والحياد الإيجابي، فلم تنغمس بشكل كامل في صراعات الجوار، لكنها لم تكن غائبة عنها أيضًا.

تبنت خطابًا يقوم على “الانتماء المزدوج” للعالم العربي والإفريقي، وهو ما منحها عمقًا دبلوماسيًا مضاعفًا.

لعبت الدبلوماسية الموريتانية أحيانًا دور الوسيط في النزاعات الإقليمية (مثل أزمات الساحل)، مما عزز حضورها رغم محدودية مواردها البشرية.

 

البعد الاقتصادي: القليل الذي صنع الفارق

اقتصاد موريتانيا قائم على موارد طبيعية هائلة مقارنة بعدد سكانها:

الحديد: كانت شركة “اسنيم” لعقود المورد الأكبر للميزانية.

الذهب والنحاس: تحولت لاحقًا إلى أعمدة إضافية للاقتصاد.

الغاز الطبيعي: يمثل اليوم الرهان الأكبر، خاصة مع مشروع “السلحفاة الكبرى” المشترك مع السنغال.

الثروة السمكية: واحدة من أغنى السواحل في العالم، لكنها تعكس أيضًا التحدي الأكبر في استغلالها بشكل أمثل.

إذا قارنا هذه الثروات بعدد السكان، نجد أن الموريتاني يملك حصة موارد طبيعية أعلى بكثير من المواطن في دول الجوار. لكن ضعف البنية التحتية وتذبذب السياسات الاقتصادية حال دون تحويل هذه الثروة إلى قوة كاملة.

 

البعد العسكري والأمني: جيش قليل العدد.. كثير المهام

أمام حدود تمتد لآلاف الكيلومترات مع دول هشة مثل مالي، كان على موريتانيا أن تبني جيشًا متماسكًا، وإن لم يكن ضخمًا عدديًا.

ركزت العقيدة العسكرية الموريتانية على الأمن الداخلي وحماية الحدود بدلًا من خوض سباقات التسلح الإقليمي.

طورت قواتها الخاصة وقدراتها الاستخباراتية في مكافحة الإرهاب بالساحل، حتى صارت نموذجًا يذكره الشركاء الغربيون بإعجاب.

بفضل سياسة “الضربات الاستباقية” تمكنت نواكشوط من تحييد خطر الجماعات المسلحة الذي هدد مالي والنيجر وبوركينا فاسو.

 

المعادلة الكبرى: القوة ليست في العدد فقط

التجربة الموريتانية تكشف أن بناء الدولة لا يقاس فقط بكثرة السكان. فبينما يملك الجوار ملايين الأيدي العاملة وكتلًا ديمغرافية هائلة، استطاعت موريتانيا أن تحافظ على تماسكها السياسي، وأن توظف ثرواتها وموقعها الجيوستراتيجي لتصنع حضورًا يتجاوز حجمها الديمغرافي.

لكن التحديات لا تزال قائمة:

اقتصاديًا: الحاجة لتنويع مصادر الدخل ومحاربة الفقر.

سياسيًا: تعزيز الوحدة الوطنية في بلد متعدد الأعراق والثقافات.

عسكريًا: الاستعداد لمخاطر الساحل المتزايدة

 

وفي الاخير قد يكون الموريتانيون “قليلين” بالعدد مقارنة بجيرانهم، لكنهم استطاعوا عبر الجغرافيا، والثروة، والسياسة الحكيمة أن يبنوا كيانًا صمد أمام العواصف. فالسؤال لم يعد: “هل نحن أقوياء رغم قلة عددنا؟”، بل: “كيف نجعل من هذه القوة النوعية رافعة لتحقيق التنمية والنهضة في العقود المقبلة؟”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى