إعادة بناء الدولة: من أجل سيادة بلا تبعية…محمد المختار سيدي هيبه

لم يعد بوسع موريتانيا أن تواصل مسارها بلا بوصلة، تحت رحمة الفرص الخارجية والتمويلات المشروطة والرموز الزائفة التي تحوّل التبعية إلى طقوس رسمية. فالمسألة أعمق من القروض وتدفقات المال: إنها تمس علاقتنا بكرامة الدولة، وهي علاقة تحتاج إلى إعادة تربية.
ثمة في بعض الممارسات إذلالٌ صامت. حين يترأس وزيرٌ حفل تسليم هبة من التمور أو المركبات، وحين يظهر والٍ أو عمدة على الشاشة ليشكر على بضع علب، فإن صورة الدولة نفسها تتصدع. الدولة لا تتسوّل. الدولة التي تحترم ذاتها تترك هذا الدور للمجتمع المدني، للمنظمات غير الحكومية، للشبكات المحلية. فكما هو حال الأفراد، على المؤسسات أن تحترم ذاتها. والتقشف ليس جمودًا، بل تعبير عن فخر جمهوري.
الدولة الحديثة تُعرَّف بقدرتها على ترتيب الأولويات، وصياغة الإستراتيجيات، وتعبئة الكفاءات، وحماية مصداقية مؤسساتها. أما الاعتماد على المديونية كخيار تلقائي فقد أضعف السيادة، وعمّق الهشاشة المالية، وشتّت التخطيط العام. ولا ينبغي اللجوء إلى القروض إلا لتمويل البنى التحتية أو المشاريع الاقتصادية التحويلية المستدامة، لا لتلبية إملاءات خارجية أو لتسكين أزمات متكررة.
يُضاف إلى ذلك خلل هيكلي: دائرية المساعدة. جزء كبير من التمويلات يعود مباشرة إلى الجهات المانحة في شكل خبرات واستشارات. مكاتب مرتبطة، مستشارون دائمون، إصلاحات معيارية.. نسبة غير قليلة من هذه الموارد تُستنزف قبل أن تصل إلى الأرض. هذا النموذج يُبقي على التبعية المالية والفكرية ويحول دون بروز هندسة وطنية مستقلة.
فالوهْم ما زال قائمًا: الاعتقاد بأن مؤسسات مثل البنك الدولي أو فرعه IFC يمكن أن تكون بوصلة إستراتيجية. لكن IFC ليس مؤسسة تخطيط ولا هيئة سيادية، بل هو هيكل موجه نحو السوق، يُموّل، ويستشير، ويشارك أحيانًا في البناء، لكن دائمًا بمنطق خدمة القطاع الخاص الدولي، وليس لحساب سيادة الدول. تلك المؤسسة لا تصوغ مصيرًا جماعيًا، ولا تفكر في التماسك الوطني أو الأولويات الاجتماعية للدول النامية. تكليفها بوضع الرؤية الإستراتيجية خلطٌ بين القيادة الاقتصادية وإدارة المحافظ المالية. وهو إقرار ضمني بأن الدولة لم تعد تملك رؤية خاصة ولا ثقة بكفاءاتها.
الثروات الغازية الجديدة يجب أن تُعامَل كرافعة إستراتيجية. وينبغي تخصيص جزء كبير من عائداتها لسداد الديون الخارجية. فهذا الخيار سيكسر حلقة الاستدانة المشروطة، ويُعيد للدولة مصداقيتها المالية، ويمنحها سيطرة أكبر على مسارها.
لكن ذلك يستوجب استعدادًا مسبقًا. كان يفترض، منذ سنوات، أن نكوّن مهندسين وتقنيين متخصصين في اللوجستية الغازية، وخبراء قانونيين قادرين على التفاوض على العقود. هذا التأخر الإستراتيجي يضعف موقفنا في مواجهة ميزان القوى والمقدّمين الأجانب.
فلا شيء يتحقق بلا رؤية واضحة. الحكم بلا وجهة في عالم مضطرب هو ارتماء في المجهول. والرؤية الإستراتيجية لا تكون ضمنية، بل يجب أن تُصاغ وتُناقش وتُعمّم. عليها أن تنير كل مستوى من مستويات العمل العامّ. كثير من كبار الموظفين يعملون في غياب مرجعية مشتركة. كثير من الوزراء يضعون خططهم بمعزل عن غيرهم، ممّا يخلق تشتتًا في السياسات العامة وهدرًا للموارد.
خطة SCAPP أو غيرها لا يجب أن تكون استنساخًا لبرمجيات أجنبية. يجب أن تنبع من حوار وطني جاد، يرتكز على الحاجات الفعلية، ويتناسب مع مواردنا، ويتجه نحو الأفق الطويل. فالسياسة العامة لا تُبنى لنيل القرض، بل لتكريس السيادة.
وهذا يفرض إصلاحًا جذريًا في نظام الحوكمة. العديد من الكفاءات الوطنية المتوفرة اليوم مهمّشة. المحسوبية والزبونية تُعطّلان أداء الدولة. يجب أن تعود الكفاءة إلى الواجهة كمعيار أساسي. على كل وزارة أن تتوفر على خلية إستراتيجية عالية المستوى، تتولى التخطيط والرقابة والمتابعة الدقيقة للمشاريع. التنفيذ يجب أن يتبع الرؤية، لا أن يسبقها.
كما يتعين على الدولة أن تطوّر أدواتها التقنية. منصات رقمية مترابطة على مستوى كل وزارة وإدارة، يجب أن تتيح المتابعة الفورية. ويجب أن يمتلك رئيس الجمهورية لوحة قيادة وطنية مختصرة توضح له في لحظات مستوى التقدم في المشاريع والسياسات.
اليوم، غالبًا ما يعمل المنفذون من دون إطار واضح، وبعضهم يُستبدل قبل أن تكتمل رؤيته. هذا الانقطاع يضعف الأداء العام، ويفصل الإدارات عن بعضها، ويهدر الزمن والفاعلية والمصداقية.
ولا إصلاح ممكن من دون إرادة صارمة في محاربة الفساد. وهذا يستدعي أمرًا بسيطًا في ظاهره، راديكاليًا في جوهره: اختيار أشخاص نزهاء، معاقبة الفاسدين، وضمان استقلال القضاء. قضاء مستقل وشفاف هو الشرط الأول للمصداقية الاقتصادية.
وأخيرًا، فإن التهديدات الأمنية المتزايدة في منطقة الساحل والصحراء تحتم سياسة تنموية متجذرة في المجتمع. يجب اعتبار التعليم وتأهيل النساء أولوية وطنية مطلقة. فبدونهما لا تنمية مستدامة ممكنة. وحين تغيب الأفق والاستقرار، يصبح الرحيل هو الأفق، والهجرة تعبيرًا عن فشل أعمق.
موريتانيا لم تعد هامشًا منسيًا. مواردها، موقعها، وإمكاناتها تضعها في قلب الرهانات الإقليمية. ويجب أن تبني شراكاتها بمنطق السيادة، مع مؤسسات أكثر قربًا من مصالحها: البنك الإسلامي للتنمية، BADEA، FADES، والبنك الإفريقي للتنمية، فهذه الهيئات أدواتها وخبراتها أقرب لواقعنا.
السيادة لا تُعلَن، بل تُبنى. تُبنى بالصرامة، والمثال، والثقة بالنفس. وكرامة الدولة ليست ترفًا بلاغيًا، بل شرط أولي لأي تنمية حقيقية. وكما قال فيلسوف ذات يوم: “الكرامة تقوم على الوفاء لما يستحق أن يُنقل ويُصان.” فلنجعل من هذا الوفاء مبدأً، لا شعارًا.