فوضى الميكانيكا والبناء في موريتانيا: بين خيانة الأمانة وضرورة الإصلاح

في زمنٍ تسعى فيه بلادنا إلى ترسيخ دولة المؤسسات والقانون، يظل تنظيم سوق العمل أحد أعقد التحديات اليومية التي تثقل كاهل المواطن. فالحديث عن الشفافية والعدالة لا يكتمل ما لم يطرق أبواب التفاصيل الصغيرة التي تمس حياة الناس: من ورش إصلاح السيارات إلى مواقع البناء.
لقد عايشتُ — شخصيًا — تجارب موجعة مع عدد من الميكانيكيين في النعمة ونواكشوط؛ تجارب كشفت حجم الفوضى وضعف الرقابة. كنتُ أظن أنني أضع سيارتي في أيدٍ أمينة، فإذا بالأمانة تُباع في سوق الغش بثمن بخس. قطع غيار صالحة تُستبدل بأخرى تالفة، بنزين يُسرق من الخزانات، ووعود براقة تنتهي إلى خيبة مريرة. إنها ليست مجرد مخالفات فردية، بل خيانة موصوفة، وانتهاك لثقةٍ هي أساس أي علاقة بين المواطن والعامل.
ولم يكن عمال البناء بأحسن حالًا؛ فكثيرًا ما يسلّم المواطن نفسه لمشاريع سكنية أو إنشائية، ليجد نفسه بين جدران هشة، وأسقف واهية، وفواتير منتفخة لا تعكس شيئًا من الجودة. مبانٍ تنهار قبل أن تُسكن، وتصاريح شكلية لا قيمة لها. إنها خيانة مزدوجة: خيانة للمهنة، وخيانة للمجتمع، وخيانة لوطنٍ يستحق الأفضل.
—
صرخة إصلاح وتنظيم
إن بقاء السوق على هذا الحال يعني أن الفوضى تُشرعن، والفساد يُطبع، والمواطن يُترك فريسة للاستغلال. لذلك، فإن الإصلاح لم يعد ترفًا، بل ضرورة وطنية عاجلة. وأدعو إلى:
1. تركيب كاميرات مراقبة في كل ورشة سيارات، لتكون الشفافية واقعًا لا شعارًا، ولحماية ممتلكات المواطنين من التلاعب.
2. فرض ضرائب عادلة ومنتظمة على الميكانيكيين وأصحاب الورش وعمّال البناء، بما يضمن مساهمتهم في خزينة الدولة وخضوعهم للمساءلة.
3. اشتراط شهادات مهنية أو خبرة موثقة قبل منح رخص مزاولة المهنة، حتى لا يعبث بالسيارات والمنازل إلا أصحاب كفاءة حقيقية.
4. إلزام العاملين بتوقيع تعهدات رسمية بعدم سرقة أو استبدال أو التلاعب بممتلكات المواطنين، مع معاقبة كل مخالف بلا تردد ولا تساهل.
5. تطبيق هذه المعايير بصرامة على قطاع البناء، فالأمر هنا لا يتعلق بأموال فقط، بل بسلامة الناس وأرواحهم.
—
الأبعاد الاجتماعية للفوضى
الفوضى في قطاعي الميكانيكا والبناء ليست قضية تقنية ولا مالية وحسب؛ إنها مرآة تعكس ثقافة عامة تتسامح مع الإهمال وتغض الطرف عن الغش. المواطن الذي يُستغل مرة تلو أخرى يفقد الثقة في وطنه، ويتحول إلى كائن حذر لا يرى في السوق إلا كمينًا.
الأطفال الذين يكبرون وسط أبنية هشة وورش فوضوية، يتعلمون أن التسيب طبيعي، وأن القيم المهنية والأخلاقية مجرد شعارات. وهنا مكمن الخطر: جيل يتربى على قبول الفوضى لن يكون قادرًا على بناء وطن متماسك.
أما اقتصاديًا، فإن الفوضى تقطع أوصال السوق، وتقتل روح الاستثمار الصغير والمتوسط. من يُفكر في فتح مشروع بسيط، قد يتراجع خوفًا من الغش والخسارة، فيموت الحلم قبل أن يولد. وهكذا، تصبح الفوضى عدوًا خفيًا للوطنية، لأنها تُحوّل المواطن إلى ضحية يائسة بدل أن يكون شريكًا فاعلًا في التنمية.
—
من الوطنية إلى الواقعية
لقد كنتُ — عن قناعة راسخة — من أشد المدافعين عن أولوية العمالة الوطنية. غير أن تكرار الخيبات وما صحبها من سرقة وغش وتجاوزات، دفعني لإعادة النظر. الوطنية لا تعني أن نُسلم أنفسنا للفوضى، بل أن نحمي المواطن من العبث.
ولهذا، أجد نفسي اليوم مؤيدًا — وبكل وضوح — للاستعانة بعمالة أجنبية محترفة، تُعيد للمهنة هيبتها، وللسوق انضباطه، وللمواطن كرامته. إنها ليست دعوة للتهميش، بل صرخة إنقاذ: إمّا أن يلتزم أبناؤنا بالمسؤولية والصدق، وإمّا أن تفرض الدولة بدائل تضمن الجودة وحماية الحقوق.
وفي هذا السياق، لا بد من برامج تدريبية وطنية صارمة، تُؤهل الشباب الموريتاني وتمنحهم فرصًا حقيقية. فالوطن بحاجة إلى يد عاملة ماهرة، سواء جاءت من الداخل أو استعانت بالخارج، لكن الأهم أن تكون مخلصة للمهنة، منضبطة بالمعايير، أمينة في التعامل.
—
الختام: أمل رغم الخيبة
ما عشته من تجارب شخصية مؤلمة لا يقلل من إيماني بأن الدولة قادرة، إذا شاءت، على فرض معايير صارمة تضع حدًا لهذه الفوضى. نحن بحاجة إلى سوق عمل شفاف، تحكمه الأمانة، وتحميه الرقابة، ويشارك في بنائه عمال وطنيون مؤهلون أو أجانب محترفون.
إنصاف المواطن وحماية ممتلكاته ليسا رفاهية ولا خيارًا ثانويًا، بل حجر الأساس لأي مشروع وطني جاد. فإما أن نُصلح ونبني، أو نترك الباب مفتوحًا للفوضى، وتلك جريمة في حق الوطن قبل المواطن.
ولذلك، فإن الإصلاح لا بد أن يترافق مع حملات توعية اجتماعية، تُعيد الاعتبار للقيم المهنية، وتغرس في النفوس أن الحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة مسؤولية الجميع. كما أن الإعلام والمجتمع المدني مدعوان لأن يكونا جزءًا من هذه المواجهة، لا شهودًا صامتين.
أيها المواطن، احمِ حقوقك، وكن شريكًا في المطالبة بالإصلاح، ولا تقبل أن تُستباح ثقتك أو تُسرق ممتلكاتك. فالوطن لا يُبنى إلا بأيدٍ نظيفة، وقلوب صادقة، وأمانة لا تُخون.
والله من وراء القصد.
الإعلامي والناشط السياسي
AHMED MED GHOULAME