آراء

المعلم… صانع الأجيال بين التقدير والتقصير…بقلم / أحمد العالم

قبل عامٍ من الآن، اهتزّت مواقع التواصل الاجتماعي في موريتانيا على وقع مقطع فيديو مؤلم، يوثّق لحظة اعتداء تلميذ على معلمه داخل حجرة الدرس. كان المشهد صادمًا، لا لأن المعلم تعرّض للأذى الجسدي فحسب، بل لأن رمزية الموقف مست جوهر العلاقة التربوية التي قامت عليها أمتنا منذ قرون — علاقة تقوم على الاحترام والتوقير للعلم وأهله.

حينها، فُتح تحقيق في الحادثة، لكنّ الرأي العام لم يُبلّغ بنتائجه حتى اليوم. لم يُزجّ بالتلميذ في سجن القُصر بحي نتگ، ولم تُرفع دعاوى انتقامية، لأن المعلّم، بطبعه ومكانته، أبٌ قبل أن يكون موظفًا، ومربٍ قبل أن يكون موظفًا في نظام إداري. كان سيقبل الاعتذار من أولياء التلميذ في اللحظة الأولى، ولن يحتاج إلى وساطة أو صك غفران.

لكن المفارقة المؤلمة اليوم، أن معلمًا آخر يبيت خلف القضبان بسبب خطأ بشريٍّ اعترف به واعتذر عنه، في مشهد يعكس تراجعًا مقلقًا في قيم المجتمع تجاه هذه الفئة التي بُنيت عليها الأمم وتأسست بها الحضارات.

المعلم.. أساس النهضة ومحرّك التغيير

قال الشاعر أحمد شوقي:

قم للمعلّم وفّه التبجيلا… كاد المعلّم أن يكون رسولا

ولم يكن شوقي يبالغ، فالمعلم هو من يصوغ العقول ويغرس في النفوس القيم والمعرفة، وهو من يزرع البذور الأولى في طريق النهضة والتقدّم.
تاريخنا الإسلامي والعربي حافل بمواقف تُجسّد تقدير العلماء والمربين، فقد كان الخلفاء والأمراء يجلسون بين يدي معلميهم متأدّبين، يعدّون خدمتهم شرفًا لا ينتقص من مكانتهم.

اليوم، ونحن نرى بعض المعلمين يُعاملون كمتهمين أو يواجهون الإهانة والعقاب بدل التقدير والدعم، فإننا نطرح سؤالًا جوهريًا:
هل ما زلنا نؤمن بأن التعليم رسالة سامية، أم أصبحنا نتعامل معه كمهنة كبقية المهن؟

انكسار الهيبة التربوية… ناقوس خطر

ما يحدث اليوم من تراجع لمكانة المعلّم لا يمسّ شخصًا بعينه، بل يهدد منظومة القيم بأكملها.
فعندما يفقد المعلّم احترام المجتمع، تنهار الركيزة التي يقوم عليها التعليم، ويُفتح الباب أمام فوضى تربوية لا يمكن السيطرة عليها.
كيف نرجو من جيلٍ أن يحترم القوانين ويقدّر العمل العام، إذا كان لا يحترم من علّمه القراءة والكتابة؟

المجتمعات التي نهضت — من اليابان إلى فنلندا — لم تبدأ من الثروات، بل من المدرسة.
وعندما سُئل رئيس وزراء اليابان بعد الحرب العالمية الثانية عن سرّ النهوض السريع لبلاده، أجاب:

 لقد بدأنا من حيث يجب أن يبدأ الجميع… من المعلّم

رسالة إلى المجتمع والسلطات

ليس المطلوب تبرير الأخطاء أو تجاوز القوانين، ولكن العدالة يجب أن تراعي طبيعة المهنة وقدسيتها.
فالمعلم ليس مجرمًا، بل إنسان يخطئ كما يخطئ غيره، لكنه في النهاية حامل رسالة لا ينبغي أن يُهان بسبب زلّة عابرة.

المجتمع الذي يُكرّم المعلم هو المجتمع الذي يحترم نفسه ومستقبله.
وحين يبيت المعلم في السجن، يبيت العلم مكسور الجناح.

إن الدفاع عن المعلم ليس دفاعًا عن شخص، بل عن فكرة ورسالة.
فالمعلم هو منارة العقول وضمير الأمة، وإذا أُطفئت تلك المنارة، فبأي ضوء سنهتدي غدًا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى